مفاتيح النجاح الرمضاني

مفاتيح النجاح الرمضاني
للشيخ عادل بن أحمد بانعمة


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
كنتُ ومازلت أقول: إنني أتهيب الحديث في الموضوعات الإيمانية لما أعلمه من نفسي من قصور أخشى معه أن أدخل في دائرة ( لم تقولون مالا تفعلون ).

ولولا رجاء أن تقدح مثل هذه الإحاديث همةَ نقيٍّ تقيٍّ فيقع لصاحبها من الأجر ما يقع له لما كان لي أن أخوض فيها .

هذه خطبة كنتُ ألقيتها في مطالع شهر رمضان من العام الماضي، وفيها معانٍ جيادٌ أحسبها نافعةً جداً لمن أراد أن يكون شعاره هذا العام : ( رمضان غير ) !!

ولعل من يرى فيها من الإخوة شيئا حسناً أن يكون سبباً لنشرها عبر المجموعات البريدية أو المنتديات فصاحبكم قد لا ينشط كثيراً لمثل هذا على جليل فضله وعظيم نفعه .

إليكم رابط الخطبة الصوتي :

http://www.4shared.com/file/12150867...___online.html

وإليكم نصّها :

مفاتيح النجاح الرمضاني
خطبة جمعة بمسجد محمد الفاتح
أعدها
أبو البراء عادل باناعمة
5/9/1429هـ


قبل نحو شهرين أو ثلاثة كانت قلوب الملايين معلقةً بنتائج الامتحاناتِ ، الكل يرجو النجاح ويخشى الرسوب .
كنت ترى علائم القلق وهي ترتسم على الوجوهِ ، وسيماء الترقّب وهي تخطُّ على الجباه قصصاً شتّى ، وحكاياتٍ متباينةً .
وحين جفّتِ الأقلامُ بالنتائج ، وبانَ كَوْرُ من اجتهدَ واستعدّ ، وحَوْرُ من تكاسلَ وما اشتدّ .. حين كان ذلك زغردت بالبشرى حناجر ، وغرقتْ في دموع الأسى محاجر !!
تذوّق الناجحون للنجاح طعماً لذيذاً ، فرحوا به وفرح به من حولهم ، وكَرَعَ الراسبون للفشل شراباً كريهاً يتجرعونه ولا يكادون يسيغونه.
خرج الناجح يحمل في يمناه البشارة ، يزهو بها على أقرانِهِ ، ويدلّ بها على أهلِهِ وإخوانِهِ ، وكل من حوله يرى له حقاً في نشوةٍ غامرةٍ أوجبها نجاحٌ جاءَ بعد تعبٍ ونصبٍ .
وخرج الراسبُ يخفي بيسراه ورقةِ فضائحِهِ ، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ! وكل من حوله يراه جديراً بالملامةِ ، حقيقاً بالتوبيخ .
الجميع كان يحس بقيمة ( النجاح الدراسيّ ) ..
والجميع كان يحس بحسرة ( الفشل الدراسي ) ..

تُرى ...
هل حملنا ذات يوم هذا الإحساس الحاد بالنجاح والفشل ونحنُ نتعامل مع شهر رمضان الكريم ؟!!
أعني هل فكرنا ذات يومٍ بمدى أهمية أن ( ننجح ) في هذا الشهر ؟ ومدى كارثة أن ( نفشل ) فيه ؟!
لماذا يكون شعورنا بثنائية النجاح والفشل حاداً جداً في جانب الدراسة ، والوظيفة ، والتجارة وغيرها من أمور الدنيا .. ويكون باهتاً جداً عندما يتعلق الأمر بالجانب العبادي ؟

بعبارة أوضح ...
لماذا نهتم بالنجاح في المشاريع الدنيوية ، ولا نبالي بالنجاح في المشاريع الأخروية ؟

دعونا نتأمّل قليلاً في قيمةِ ( النجاح ) في هذا الشهر المبارك شهر رمضان !
روى ابن حِبّان في صحيحه عن طلحة بن عبيد الله ، قال : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم رجلان من بَلِيٍّ ، فكان إسلامهما جميعاً واحداً ، وكان أحدهما أشد اجتهاداً من الآخر ، فغزا المجتهد فاستشهد ، وعاش الآخر سنة حتى صام رمضان ، ثم مات ، فرأى طلحة بن عبيد الله – أي في المنام - خارجاً خرج من الجنة ، فأذن للذي توفي آخرهما ، ثم خرج فأذن للذي استشهد ، ثم رجع إلى طلحة ، فقال : ارجع فإنه لم يأن لك ، فأصبح طلحة يحدث به الناس ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فحدثوه الحديث ، وعجبوا ، فقالوا : يا رسول الله كان أشد الرجلين اجتهادا ، واستشهد في سبيل الله ، ودخل هذا الجنة قبله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أليس قد مكث هذا بعده بسنة ؟ » قالوا : نعم . قال : « وأدرك رمضان فصامه ، وصلى كذا وكذا في المسجد في السنة ؟ » قالوا : بلى ، قال : « فلما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض ».
انظروا الآن وتأملوا ...
(أليس قد مكث هذا بعده بسنة وأدرك رمضان فصامه ) !!
لقد كان ( نجاحُ ) هذا الصحابي الجليل في شهرِ رمضانَ سبباً لأن يسبق إلى الجنةِ من كان أكثر منه اجتهاداً وعبادةً ! ( نجاحُهُ ) في شهرٍ واحدٍ من شهور ( رمضان ) جعله يسبق هذا السبق البعيد .
فهل يشعر كل واحدٍ منا الآن بقيمة ( نجاحه ) في شهر رمضان ؟
دعونا ننظر إلى الزاوية الأخرى ..
إلى كارثة ( الفشل الرمضاني ) ...
روى ابن حبان أيضا في صحيحه عن مالك بن الحويرث ، قال : صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر ، فلما رقي عتبة ، قال : « آمين » ثم رقي عتبة أخرى ، فقال : « آمين » ثم رقي عتبة ثالثة ، فقال : « آمين » ثم ، قال : « أتاني جبريل ، فقال : يا محمد ، من أدرك رمضان فلم يغفر له ، فأبعده الله ، قلت : آمين ... الحديث .
إنها كارثةٌ فعلاً .. دعاءٌ من سيد الملائكة وتأمين من سيد البشر !
على أي شيء؟
على ( إبعاد ) من فشل في رمضان ولم ينجح ! ( من أدركه رمضان فلم يغفر له ) .

وازنوا الآن بين الصورتين .. صورة الناجحين في رمضان ممثلةً في ذلك الرجل البلويّ السابق إلى الجنة ، وصورة الراسبين فيه ممثلةً في من دعا عليه الملك بالإبعاد وأمَّنَ النبيّ صلى الله عليه وسلم .

يقول علماءُ النفسِ : إن المسافة بين صورة النجاح والفشل في أي قضيةٍ كانت هي التي تتحكم في حجم الدافع الداخليِّ لدى الإنسان .
فكلما زادت هذه المسافة .. زادت حماسة الإنسان للنجاح .
وكلما قلّت .. فترت همته وقل سعيه للنجاح .
بمعنى أنك إذا كنت لا ترى فرقاً كبيراً بين أن تنجح أو أن تفشل في قضيةٍ ما فإن حماسك للنجاح في هذه القضية يكون ضئيلاً جدا .
ولكنك إذا كنت تجد فرقاً هائلاً بين نجاحك وفشلك فسيدفعك ذلك دفعاً شديداً لأن تطلب النجاح وتحصّله .
وأنا عندي اعتقادٌ أكيدٌ بأنّ عدم استشعارنا العميق للفرق بين الناجحين في رمضان والفاشلين فيه سببٌ من أسبابِ قلةِ احتفالنا بالنجاح الرمضانيّ .
وأحسب أننا جميعاً بعد هاتين الصورتين المتضادتين قد بدأنا نشعر بقيمةِ النجاح في شهر رمضان ..

وهذا الشعور العميق هو أول الدوافع نحو البحث عن ( مفاتيح لهذا النجاح الرمضانيّ ) .

وهذه المفاتيح هي ما أحاول أن أتحدث عنه في هذا المقام .. قلتُ : أحاول وأنا أعني ما أقول ؛ لأن الموضوع أكبر من طاقتي العملية .. والأهمّ أنه أكبر من طاقتي الروحية .. وعافيتي القلبية .. ولكنني أحاول .. أحاول فحسب . وعسى أن يكون في السامعين من هو أزكى قلباً وأنقى روحاً وأعلى همةً فينشطَ لما كسلتُ فيه أنا.
في ظنّي أن مفاتيح النجاح الرمضانيّ خمسة أنسقها مسجوعةً ليكون ذلك أدعى لحفظها :

المفتاح الأول : كمال الاستعداد .
والمفتاح الثاني : جمال الاستمداد .
والمفتاح الثالث : تحريك أشواق الفؤاد .
والمفتاح الرابع : التخطيط المستفاد .
والمفتاح الخامس : مكمّلات الزاد .

أما ( كمال الاستعداد ) فشيءٌ قد فات وقتُهُ للأسف ، وأعني به أن يتهيّأ الإنسان لهذا الشهر قبل قدومِهِ ، ويستعدّ للحظاتِهِ قبل ورودِهِ ، وقد سلف لهذا المنبر حديث مفصَّلٌ عنوانه ( استعدّ من الآن ) أحسبُ أنّه وفّى هذا المفتاح حقَّهُ من النظر والفحص .

وأما ( جمال الاستمداد ) – وهو المفتاح الثاني – فهو سرٌّ من أسرار النجاح الرمضانيِّ يعرف قيمته من وُفِّق إليه .
وحقيقته أن يستمد العبدُ من ربه العونَ على الطاعةِ والعبادةِ ، وأن يكون كما قال القائلُ :
دعِ العبدَ ياعبدُ وارفع يديك ودقّ السماءَ وقل ياودودْ
ولقد ربط سبحانه وتعالى بين العبادة والاستعانة ربطاً محكماً في قوله جل جلاله : ( إياك نعبدُ وإياك نستعين ) . إن هذا الجمع بين العبادة والاستعانة في آية كريمةٍ نكررها في كل ركعة من صلواتِنا معناهُ أنّ عليك أيها العبدُ أن تعقلَ أنه لا سبيل لك إلى كمال العبادة إلا عبر بوابة الاستعانةِ .
وقد تكرر هذا المعنى في النصوص الشرعية .. وأوضح ما هنالك مارواه أحمدُ وغيره عن عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِهِ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ: (يَا مُعَاذُ إِنِّي لَأُحِبُّكَ)، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أُحِبُّكَ، قَالَ: ( أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ).
فهذه وصية نبويةٌ جاءت في سياق المحبةِ فحواها أن على الإنسان أن يستعين بالله على طاعته دبر كل صلاة .
وللعظيم آبادي في عون المعبود تعليق لطيفٌ على هذا الحديث خلاصته أن النبيّ صلى الله عليه وسلم علَّم معاذاً أن يستعين بالله في سائر أنواع العبادات .. فالذكر إشارة إلى عبادة اللسان ، والشكر إشارة إلى عبادة الجِنان ( أي القلب ) ، وحسن العبادةِ إشارة إلى عبادة الأركان ( أي الجوارح ) ! وبهذا تُستوفى كل أنواع العبادة . [ انظر عون المعبود ]
وقد صدق من قال :
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى ... فأول ما يقضي عليه اجتهادُهُ !
كم هي المراتُ التي عزمنا فيها على ضروبٍ من الطاعات في رمضان ثم لم نوفق لها ؟
كم مرةٍ جلسنا مع أنفسنا وقلنا : سنختم كذا وكذا ختمة ، ونصلي كذا وكذا ركعة ، ثم وجدنا أنفسنا لا نفي بما عزمنا عليه ولا حتى بنصفه أحياناً !!
هل تعرفون السبب ؟
السبب أنّنا فكرنا وقدرنا ولكننا مارفعنا أيدينا بصدق وقلنا : يارب أعنّا على ما عزمنا عليه من الطاعة ، فوكلنا الله لأنفسنا !! ومن وُكِل إلى نفسه فقد وُكِلَ إلى ضيعةٍ وعجز ، ألم يقل نبيّنا صلى الله عليه وسلم – فيما رواه أحمد - : (وَأَشْهَدُ أَنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إِلَى ضَيْعَةٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ) ؟
لماذا يفتقر العبد في أداء العبادة إلى الاستعانة ؟
لأنّه إنما يعبد الله بجوارحِهِ وهذه الجوارح بيد الله إن شاء بعثها وإن شاء قعَدَ بها ، وتأملوا قوله تعالى : ( ولكن كره الله انبعاثهم فثبّطهم ) ، قال الشوكاني في فتح القدير : أي حبسهم الله عن الخروج معك وخذلهم . وعليه فمن شاء تنشيط جوارح للعبادة فليستعن بخالقها ومصرّفها.
كذلك يفتقر العبد في أداء العباة إلى الاستعانة لأنّه إنما تحسُنُ عبادتُهُ بحضورِ قلبِهِ وخشوعِهِ والقلوب – كما صح في الحديث عند مسلم – ( بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحدٍ يصرفه حيث يشاء ) . فمن شاء تصريف قلبِهِ من الإدبار إلى الإقبال ، ومن القسوة إلى اللين ، ومن الغلظِ إلى الخشوع فسبيله أن يطرق باب الله ويستعين به .
وانظر جليل أثر الاستعانة في باب العبادة فيما رواه الذهبي في سيره [ 7/178 ] في ترجمة الزاهد القدوة شيخ العباد عبد الواحد بن زيدٍ ، فقد ذكر أنَّ فُلِجَ في آخر حياتِهِ فعزّ عليه ألا يتوضّأ وألا يقوم بين يدي ربه فسأل اللهَ العون على ذلك ، فكان إذا حانتِ الصلاةُ أُطلِقت جوارحه فقام وتوضأ وصلى فإذا رجع إلى سريره فلج كما كان !!!
ولاغرو وقد رأينا هذه الاستعانة أن يبقى عبد الواحد يصلي الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة !
أخي ..
إذا كانت الاستعانةُ بالله قد حركتِ الجوارح الميتة فنشطت للطاعة فكيف لا تبعث همةً خامدةً ؟ وكيف لا تنشّط جسداً كسولاً ؟ وكيف لا تحرك قلباً فاتراً ؟
حدثني أخٌ كريم أنه كان إذا اعتكف في الحرم غلبه النعاس في صلاة القيام ، وأنه احتال على ذلك بمحاولة زيادة ( جرعة ) النوم فصار يغفو حتى بين المغرب والعشاء حسب الإمكان .. ولكن بلا فائدة .. وحين هُدِي إلى الطريق الصحيح رفع يديه واستعان بالله صادقاً مخلصاً .. وصار قبل كل صلاة قيام يدعو بإلحاح أن يصرف الله عنه كل ما ينغص صلاتُهُ .. فإذا هو يجدُ للصلاة طعماً آخر ! وماعادت قلة النوم تشغل باله !!
عليك – أيها الأخ - بهذا المفتاح مفتاح جمال الاستمداد كلما عزمتَ على طاعةٍ ، وكلما رأيت فتوراً ، وكلما هممتَ بأمر خيرٍ فلم تطاوعك نفسك .. وانظر من بعدُ كيف تتنزل عليك البركات .

المفتاحُ الثالثُ للنجاح الرمضانيّ هو ( تحريك أشواق الفؤاد ) .. وسرُّهُ أن القلبَ هو الذي يحمل الإنسان على الفعلِ إذا أحبَّ ، ويحمله على الترك إذا أبغضَ ، وأما العقل فقصارى أمره أن يقول لك : هذا صوابٌ وهذا خطأ .. أما الباعثُ والدافعُ والمحرّكُ فقلبيٌّ صِرْفٌ .
ومشكلتنا اليوم مع رمضان أننا ( نعرفُ ) كثيراً من فضائلِهِ وبركاتِهِ ولكننا ( لانشعر ) قلبياً بهذه الفضائل والبركاتِ ، وبالتالي لا نشتاقُ إليها ، ومن ثمَّ نبقى نراوح عبادياً في أماكننا !!
إنَّ العقل هو ( مستودع ) معلومات ، وإنَّ القلب هو ( مخزن ) مشاعرَ . في جهاز الحاسوب هناك ( أوامر ) مخزنة في الذاكرة ، هذه الأوامر تظلُّ جامدةً حتى تجري في الجهازِ حرارة الكهرباء ، فيتمكّن الجهاز من تحويل تلك الأوامر إلى ( إنجازاتٍ ) تشاهدُ عبر الشاشة .. ما في عقولنا من معلوماتٍ عن رمضان وفضائله هو كهذه الأوامر .. تظل جامدةً حتى يتدفق تيار المشاعرِ القلبيّ .. حينئذٍ فقط تتحول إلى عملٍ .
وهذا هو المفتاح الثالث .. أن نحرِّكَ أشواقَ الفؤاد نحو رمضان وعباداتِهِ من خلال تحويل ( فضائله ) من معلوماتٍ مجرّدةٍ عقلية نسابق الواعظ في ذكرها ، إلى مشاعرَ حيّةٍ قلبيّةٍ . لنأخذ مثالاً .. ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه ) .. دعونا نجتهد في تحويل هذه المعلومة إلى شعور !
لنقف هنيهةً مع أنفسِنا .. كم هي المعاصي التي ارتكبناها ؟
كم مرةٍ نظرنا إلى الحرامِ ؟ كم مرة سمعنا الحرام ؟ كم مرة نطقنا بما يسخط الله ؟ كم مرة قصرنا في حقوق الوالدين والأرحام ؟
كم منا من وقع في الفواحش ؟
وكم منا من كذب ؟
وكم منا من خالط جوفه مالٌ حرامٌ ؟
كم في خفايانا من ذنوبِ سرّ لا يعلمُها إلا الله .. يؤرقنا مجرد التفكيرُ فيها ؟
ثمّ .. هل فكرنا كم من الرزق حرمناه بسبب هذه المعاصي ؟ وكم من التوفيق فاتنا بسببها ؟ وكم من العقوبة حلت بنا جراءها ؟
ثم .. هل فكرنا فيما ينتظرنا في القبر ويوم القيامةِ من عقوبةٍ لا قبل لنا بها جراء اجترائنا على حرمات الله ؟
كل هذا البلاء الآخذ بأكظامِ النفسِ يمكنُك أن تتحرر منه في شهرٍ واحدٍ !!
يا ألله !
شهرٌ واحدٌ تمحو عذابات السنين ؟!!
شهر واحدٌ يذهبُ بأوزارٍ كأمثالِ الجبالِ ناءت بها ظهورنا .. ووجلت لها قلوبنا ؟
شهر واحدٌ – وربما ليلة واحدةٌ منه - تنفض عنا عوائق التوفيق ، وموانع البركة ؟
نعم .. هو كذلك رمضان .. يغسلك ياسيدي .. يغسلك بالكليةِ .. ويخرجُكَ نقياً كماء السماء .. أبيضَ كسحابِ السماء .. حراً كهواء السماء ..
هل تدرك قيمة ذلك ؟
أقصد .. هل ( تشعر ) بقيمةِ ذلك ؟
شيءٌ آخر في هذا السياقِ ..
هل تدرك الفرق بين عمر بن الخطابِ رضي الله عنه قبل الإسلام وعمر بعد الإسلام ؟
هل تدرك الفرقَ بين عبد الله بن المبارك المغنّي شاربِ الخمر وعبد الله بن المبارك العلم الإمام المحدث الرباني ؟
هل تدرك الفرقَ بين الفضيل بن عياضٍ قاطعِ الطريقِ اللصّ النهّابِ والفضيل العابد الزاهدِ التقي النقي ؟
لقد كان في حياة هؤلاء جميعاً ( لحظةٌ ) تحول فيها مسار حياتهم ، وتبدلت شخصياتهم ، واعتدلت بوصلتهم .. إنّها لحظةُ الهدايةِ والتوفيقِ بها صاروا من حال إلى حال .
اصدقني .. ألا تتمنى في حياتك لحظةً كهذه .. تنفضك نفضاً ، وتنقلك من الدرك الذي أنت فيه فإذا بك وليٌّ من أولياء الله الصالحين ، وعلمٌ من أعلام الأمة العاملين ؟
تذكر إذنْ أنّ شهر رمضان الذي ( تنجحُ ) فيه هو أرجى أوقاتِ حياتك لتحقيق لحظة الهداية هذه .
هل بدأنا نشعرُ ( بقيمة ) هذا الشهر ، وبمقدار ما يمكنُ أن يحدثه في حياتنا من أثر ؟!!
بمثل هذا النظر ( نحرّك أشواق الفؤاد ) ونبعثُ في معلومات ( العقل ) حياة ( القلب ) .. ويالها من حياة !

مفتاح النجاح الرمضانيّ الرابع هو ( التخطيط المستفاد ) .
والناس يخططون لكل شيء .. لدراستهم ، لتجارتهم ، لبيوتهم ، بل يخططون حتى لنزههم وإجازاتهم .. ثم هم بعد ذلك لا يخططون لعبادتهم ! ولا يخططون للنجاح الرمضاني !!!
وعندي أن التخطيط العباديّ الرمضانيَّ له ثلاثةُ أبعاد :
أولها : منهجةُ العبادة .. بأن تجعل لك منهجاً واضحاً فيما تريد إنجازه من عبادات رمضانية ، كن واضحاً .. كم ختمة تريد أن تختم ؟ كم مرة ستصلى على النبي في اليوم ؟ كم مرة ستستغفر ؟ بكم ستتصدق ؟ ارسم لك منهجاً واضحاً محدداً لما تريد من عبادات لأن ذلك سيشدّك إلى هدفك ويجعل بين يديك معياراً تحاسب به نفسك يومياً .. واحذر أن يكون كل ترتيبك للعبادة رغبةً مبهمةً غائمةً في الإكثار من الخير .
وثانيها : تفتيت العبادة .. عندما تستعظم عبادةً من العبادة جزّئها وقسّمها على أوقات اليوم وسترى كم هي سهلةٌ !!
قد تستصعب الجلوس لقراءة ثلاثة أجزاء في اليوم .. ولكن حرصك على الجلوس عشر دقائق قبل كل صلاة وعشر دقائق بعدها يجعلك تختم القرآن في عشرة أيام دون تعبٍ ولا نصب !!
قد تستثقل التسبيح ألف مرة ! ولكن تقسيمك لهذه الألف على مشاوير العمل ومقاضي البيت وحوائج العيد سيجعلك تسبح ألفي مرة في اليوم دون أن تشعر !
فتِّتِ العبادة وقسّمها تسهل عليك بإذن الله .
وثالث أبعاد التخطيط العبادي في رمضان : تركينُ العباداتِ .. بمعنى أن تجعلها ركناً في برنامجك اليومي .. تدير عليها بقية الأشغال ولا تديرها هي حول الأشغال .
اختر عدداً من العبادات وحدد لها أوقاتاً واجعلها أركاناً في برنامجك اليومي .. تماماً كما تجعل وقت الدوام الوظيفي ركناً لا يجور عليه شيء من المشاغل .
عند يكون التبكير إلى المسجد للفريضة ركناً في برنامجي اليومي فإنني لن أتأخر عنه لأني عندي موعداً مع فلانٍ وأريد أن أصلي عنده ! ولن أتأخر عنه لأنني متعب وأريد النوم ! ولن أتأخر عنه لأن بين يدي عملاً ما أريد أن أفرغ منه !
وعلى ذلك قس .
بهذه الأبعاد الثلاثة يستطيع الإنسان أن يخطط لعباداته الرمضانية تخطيطا يدنيه بإذن الله من المراد ، ويملّكه مفتاحاً من مفاتيح النجاح الرمضانيّ .
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم .


= الخطبة الثانية :
بقي لنا مفتاحٌ من المفاتيح التي تحاول خطبتنا هذه أن تشرحها .
إنه المفتاح الذي سميناه ( مكمّلات الزاد ) .
ومعناه أن يبحث كل إنسان عن تلك ( المكمّلات ) التي ترفدُه وتساعده في طريقه نحو النجاح الرمضانيّ .
فالبعضُ – مثلاً – ينتفع كثيراً بمواعظِ فلانٍ أو فلانٍ من المشايخ فليكثر إذن من الاستماع إليه .
والبعض – مثلاً – تهزه الصلاة خلف فلانٍ من أعماقِهِ فيبكي ويخشع فليحرص إذن على هذه الصلاة .
والبعض – مثلاً – ينتفع كثيراً بخلوةٍ بين يدي ربه ومولاه .. فليُدمن إذن على لحظاتِ الخلوة هذه .
والبعض – مثلاً – تهزُّهُ ركعاتُ الأسحارِ يترنّم فيها بالقرآن من محفوظه فليغتنمها ولا يفوتها .
وهكذا لتبحث أخي عما يحرك قلبك .. وينمي شوقك .. ويبعث همتك .. فتلك هي مكملات زادك في طريقك المشرق نحو النجاح الرمضانيّ .

وبعـــد ...
فعندي يقينٌ أنَّ كل واحدٍ منا لو توسّل بهذه المفاتيح فسوف يجد لرمضان طعماً آخر لم يكن يجده ..
وأرجو أن تكون درجاتُهُ في نهايةِ الشهر عاليةً جداً .. وأن يكون نجاحه مبهرا ً... على نحو – ربما – لم يكن يتوقعه !
وحينها يذوق طعم النجاح .. ويحظى بلحظاتِ الوصلِ والقربِ .. ويقول مع ذي النون مناجياً :
أموت وما ماتت إليك صبابتي
ولا رَوِيت من صدق حبك أوطاري
مُناي المنى كل المنى أنت لي منى
وأنت الغِنى كل الغِنى عند إقتاري
وأنت مدى سؤلي وغاية رغبتي
وموضع شكواي ومكنون إضماري
ألست دليل الركب إن هم تحيّروا
ومنقذ من أشفى على جرفٍ هارِ
أنرت الهدى للمهتدين ولم يكن
من النور في أيديهم عشر معشارِ !!
[ رائق الشهد : 105 ]


نقلا من موقع شبكة الفصيح لعلوم اللغة العربية http://www.alfaseeh.com/vb/showthread.php?t=48463

0 التعليقات:

تعريب وتطوير مدونة التعليم الالكترونى